ما أجمل أن نبدأ رحلتنا مع نجوم الإسلام بمصعب بن عمر
أو مصعب الخير كما كانوا يطلقون عليه
ذلك الفتى الريان المدلل المنعَّم أجمل فتيان قريش وأوفاهم بهاء
وشبابا يقول المؤرخون عنه أنه "كان أعطرَ أهل مكة" تفوح منه
رائحة العطر أينما ذهب كان حديث مجالس مكة ولؤلؤة ندواتها
أيمكن أن يتحول هذا الفتي المدلل إلى أسطورة من أساطير الفداء
والإيمان؟! سمع الفتى ذات يوم أحاديث قريش عن محمد
وأصحابه وهذا الدين الجديد الذي جاء به. إنه كلام يحرك العقول
الذكية، ويخاطب الفطر السليمة النقية، وبدأ الصراع يدور في
رأسه بين هذا الدين الجديد الذي يحرك القلوب وبين ما نشأ
وتربى عليه ولم يطل تردده كثيرا
وعرف أنهم يجتمعون عند جبل الصفا في دار الأرقم بن أبي
الأرقم فلم يطل الانتظار وذهب إلى هناك ليسمع بنفسه هناك كان
رسول الله يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن ويصلي بهم لم يكد
مصعب يأخذ مكانه بين الصحابة ويستمع إلى آيات الله حتى
انشرح قلبه بنور الإسلام فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يده على صدر مصعب ليهدأ قلبه المتوهج وتنزل عليه السكينة.
كان مصعب رغم صغر سنه معه من الحكمة ورجاحة العقل ما
يفوق أضعاف عمره .وبدأت رحلة مصعب مع الجهاد
كانت أمه "خناس بنت مالك" تتمتع بقوة ونفوذ وكان الجميع
يهابونها فلم يقدر مصعب على مواجهتها ففكر سريعا وقرر أن
يكتم إسلامه عنها وظل يتردد على دار الأرقم ويجلس إلى رسول
الله ويتفادى غضب أمه التي لا تعلم شيئا عن إسلامه
ولكن مكة في ذلك الوقت لا يخفى فيه سر فلقد رآه عثمان بن
طلحة وهو يدخل سرًا إلى دار الأرقم ورآه وهو يصلي كصلاة
محمد فأسرع إلى أم مصعب ليلقي عليها الخبر الذي نزل عليها
كالصاعقة ووقف مصعب أمام أمه وعشيرته في يقين وثبات يتلو
عليهم آيات الله رافضًا الإستسلام لما يأمرونه به من ترك الدين
الجديد فما كان منها إلا أن أحكمت قيوده وحبسته في البيت
ومنعت عنه الطعام حتى يترك الإسلام وظل حبيسًا حتى وصله خبر
هجرة المؤمنين إلى الحبشة فغافل أمه وحراسته وخرج إلى
الحبشة مهاجرًا مع أصحابه
ومكث معهم في الحبشة حتى عادوا إلى مكة وحاولت أمه حبسه
مرة أخرى ولكنه لم يستجب لتهديدها فودعته باكية وقالت له لم أعد لك أما فبكى واقترب منها وقال يا أمه إني لك ناصح وعليك
شفوق فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله "
فاجابته غاضبة " قسما بالثواقب لا أدخل في دينك فيُزري برأيي
ويضعف عقلي" فانصرف عنها.
وهكذا خرج مصعب من النعمة الوارفة وأصبح الفتى المتأنق لا
يرتدي إلا أخشن الثياب يأكل يومًا ويجوع يومًا وتحول مصعب من
حياة الترف والرفاهية إلى حياة الجهاد والصبر
خرج يومًا على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلما رأوه حنوا رؤوسهم وبكى الكثير منهم لأنهم
رأوه يرتدي جلبابًا مرقعًا باليًا ذلك الفتى الذي كان يرتدي أفخر
الثياب وأغلاها باع ترف الدنيا ليشتري الآخرة ..
فقال رسول الله " لقد رأيت مصعبا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه
منه لقد ترك ذلك كله حبا لله ورسوله"
ومرت الأيام واختاره رسول الله لأعظم مهمة أن يكون سفيرًا إلى
المدينة ليُعلم الأنصار الذين أسلموا وبايعوا الرسول عند العقبه
دينهم ويُعد المدينة للهجرة العظيمة
كانت مهمة عظيمة اختار لها رسول الله "مصعب الخير " كما
كانوا يلقبونه اختاره رسول الله ليلقي إليه بمصير الإسلام في
المدينة التي ستكون دارا للهجرة ومنطلق الدعوة الإسلامية
للعالم حمل مصعب الامانة واستعان بما انعم الله عليه من حكمة
وعقل راجح وخلق كريم واستطاع أن يغزو قلبو أهل المدينة لما
بعثه رسول الله إلى المدينة لم يكن فيها سوى اثني عشر مسلما
ولم يكد يمضي بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول
ولقد تعرض لمواقف عديدة أثناء دعوته كانت من الممكن أن
تقضي على الدعوة لولا فطنته وحسن تصرفه
لما ذهب للمدينة نزل في ضيافة أسعد بن زرارة وأخذ يجتمع بأهل
المدينة يدعوهم للإسلام برفق وحكمة وذات يوم وهو جالس مع
بعض اهل المدينة جاءه أسيد بن خضير سيد بني عبد الأشهل
بالمدينة شاهرا سيفه يتوهج غضبا على مصعب الذي جاء يفتن
الناس ويخرجهم من دينهم ويدعوهم لهجر آلهتهم فلما رأم
المسلمون المجتمعون مع مصعب خافوا ولكن مصعب ظل ثابتا
هادئا
وقف أسيد أمامه قائلا في غضب " ما جاء بكما إلى حيِّنا تسفهان
ضعفاءنا اعتزلانا إذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة" فقال له
مصعب في هدوء " أولا تجلس فتسمع؟! فإن رضيت أمرنا قبلته
وإن كرهته كففنا عنك ما تكره "
كان أسيد ردلا عاقلا حكيما فأجابه أنصفت وألقى حربته وجلس
يسمع "
ولك يكد مصعب يقرأ القرآن حتى انفرجت أسارير أسيد وانشرح
صدره
ولما انتهى مصعب من القراءة والتفسير قال أسيد "ما أحسن هذا
القول وأصدقه كيف يصنع من أراد الدخول في هذا الدين؟" فهلل
الحاضرون في فرح وسعادة وقال له مصعب " يطهر ثوبه وبدنه
ويشهد ألا إله إلا الله " ورجع أسيد إلى سعد بن معاذ واخبره
وقصة إسلام سعد سنقصها عند الحديث عنه في موضوع منفصل .
وأسلم سعد بن معاذ ثم تلاه سعد بن عباده وتمت بإسلامهم النعمة
وأسلم اهل المدينة ودخلوا في دين الله أفواجا
لقد نجح أول سفراء الإسلام نجاحا منقطع النظير . وفي موسم
الحج التالي ذهب مصعب مع وفد يمثل الانصار عدده سبعون
مؤمنا ومؤمنة لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتمضي الأيام ويهاجر الرسول وأصحابه إلى المدينة وتواصل
قريش حقدها على المسلمين وتقوم غزوة بدر وينتصر فيه
المسلمون ويلقنون المشركين درسا يفقدهم صوابهم فيعودوا
للانتقام في غزة أحد وتأتي غزوة أحد ويختار رسول الله مصعب
ليحما الواء وتشتد المعركة بين المسلمين والمشركين وينتصر
المسلمون في بادئ الأمر ويخالف الرماة امر رسول الله ويراهم
قادة قريش وهم ينسحبون من مواقعهم فيعودون للقتار وسرعا ما
يتحول النصر إلى هزيمة وتنتشر الفوضى في صفوف المسلمين
وأدرك مصعب الخطر الغادر فرفع اللواء عاليا وصاح فيهم
ومضى يقاتل كالأسد يد تحمل اللواء ويد تحمل السيف وكان هدفه
ان يخطف أنظار المشركين بعيدا عن رسول الله فتكاثر الأعداء
حوله ولندع شاهد عيان يصف لنا مشهد النهاية في حياة مصعب
يقول ابن سعد أخبرنا إبراهيم بن محمد بن شرحبيل عن أبيه قال :
"حمل مصعب بن عمير الواء يوم أحد فلما جال المسلمون ثبت به
مصعب فأقبل ابن قميئة على فرسه فضربه على يده اليمنى
فقطعها ومصعب يقول " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله
الرسل"وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه فضرب يده اليسرى
فقطعها فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول "
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " ثم ضربه الثالثه
بالرمح ووقع مصعب وسقط اللواء
وقع مصعب بعد ان خاض قتال عظيم وكان يعزي نفسه في رسول
الله من فرط حبه له يقول مع كل ضربة " وما محمد إلا رسول قد
خلت من قبله الرسل"
وانتهت المعركة المريرة وجاء رسول الله وأصحابه يتفقدون
الشهداء وعند جثمان مصعب سالت دموع غزيرة
يقول خباب بن الأرت " هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في سبيل الله منا من مضى ولم ياكل من اجره في دنيا شيئا
منهم مصعب بن عمير قتل يوم احد فلم يوجد له شئ يكفن فيه إلا
نمرة كنا إذا وضعنا على رأسه تعرت قدماه وإذا وضعناها على
رجليه برزت رأسه فقال لنا رسول الله اجعلوها على رأسه
واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر "
وعلى الرغم من مصاب رسول الله في عمه حمزة يوم أحد وتمثيل
المشركين بجثته وعلى الرغم من امتلاء أرض المعركة بجثث
اصحابه إلا أنه وقف عند مصعب بن عمير وقال " من المؤمنين
ردال صدقوا ما عاهدوا الله عليه "
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي كفن فيها وقال: " لقد
رأيتك بمكة وما بها أرق حُلَّة ولا احسن لمة منك ثم ها انت ذا
شعث الرأس في بردة "
وهتف رسول الله وقد وسعت نظرته الحانية مصعف ورفاقه من
شهداء المعركة وقال " إن رسول الله يشهد انكم الشهداء عند الله
يوم القيامة "
ثم التفت إلى اصحابه الأحياء حوله وقال لهم " أيها الناس
زوروهم وأتوهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم
مسلم إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه السلام"
السلام عليك يا مصعب
السلام عليكم معشر الشهداء